هكذا كان صلى الله عليه وسلم يحيي رمضان
نبي المصطفى والرسول المجتبى صلى الله عليه وسلم هو المثل الأعلى لكل مسلم، والقدوة الأسمى لكل مؤمن: { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا } [ الأحزاب : 21 ] . قوله صدق { وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى } [ النجم :3-4] ، وفعله طيب، وهو مبارك أينما حل وارتحل، زكاه الله ظاهراً وباطناً، وامتدح أخلاقه وأفعاله وأقواله. فإذا عُلم هذا.. كان حرياً بكل مؤمن صادق في حبه للنبي صلى الله عليه وسلم أن يتبع خطاه وأن يسير على نهجه وأن يقتفي أثره، فهو قائد كل مؤمن إلى الجنة. فما أعظم ربح من اتبع أقواله واقتدى بفعاله ونسج على منواله، وما أشد خسارة من تنكر لشريعته، وجحد سنته، وأعرض عن طريقته صلى الله عليه وسلم.
إذا عُلم ذلك، اشتد شوقنا وعظمت رغبتنا في أن نعيش معه صلى الله عليه وسلم في رمضان وفي غير رمضان... ولعل رمضان بما فيه من نفحات ومنح يعد فرصة قوية، ومعيناً كبيراً بعد الله على تحقيق هذا الأمل. فلننظر إلى هديه صلى الله عليه وسلم وإلى هدي أصحابه الأبرار، وسلف الأمة الأخيار، في هذا الشهر، كيف صاموه وقاموه، وكيف قضوا أوقاته، وكيف عاشوا ساعاته. وفيما يلي بعض هديه، وما كان عليه صلى الله عليه وسلم في رمضان.
أولاً: الجود والكرم
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان، حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة" متفق عليه. وهكذا كان صلى الله عليه وسلم جواداً كريماً سائر حياته، وكان أكثر جوداً وكرماً وعطاءً في رمضان، فكان لا يرد سائلاً، ولا يمنع محتاجاً، مستجيباً في ذلك لتأديب ربه تعالى إياه: { فأما اليتيم فلا تقهر * وأما السائل فلا تنهر } [ الضحى : 9-10].
وما كان صلى الله عليه وسلم يقول لأحد "لا" قط..
إذن أكبر معالم سيرته وهديه صلى الله عليه وسلم في رمضان: الجود والإعطاء والإنفاق والبذل والسخاء، حتى الثياب التي عليه إذا سئل أعطاها.
ففي حديث سهل بن سعد، الصحيح، قال: "نسجت امرأة للرسول صلى الله عليه وسلم ثوباً فلبسه محتاجاً إليه، فخرج به إلى أصحابه، فرآه رجل فقال: يا رسول الله، ما أجمل هذا الثوب، اكسنيه يا رسول الله، فقال الصحابة لهذا الرجل: صنع الله بك وصنع، وفعل الله بك وفعل - كناية عن توبيخهم إياه - لبسه رسول الله صلى الله عليه وسلم محتاجاً إليه فجئت فسألته وهو لا يمنع أحداً شيئاً، فلما أعطاه صلى الله عليه وسلم إياه، قال الرجل: أرجو أن يكون هذا الثوب كفناً لي، فكُفن فيه".
وهكذا فقد طبق الرسول صلى الله عليه وسلم وهو الأسوة والقدوة قوله تعالى: { ويؤثرون على" أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون } [ الحشر : 9].
فهل جربت أخي المسلم مرة أن تعطي أحداً شيئاً أنت في حاجة إليه؟ وهل أنت واثق أن الله سيخلف عليك بالخير: { وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين } [ سبأ : 39 ].
ثانياًً: الاجتهاد في قيام الليل
كان المصطفى صلى الله عليه وسلم قواماً لله كثير التهجد والذكر والبكاء والدعاء لله تعالى، قال له ربه سبحانه: { قم فأنذر } [ المدثر : 2 ] ، { قم الليل إلا قليلا } [ المزمل : 2 ] ، فقام صلى الله عليه وسلم ثلاثاً وعشرين سنة، ولم يقعد بعدها، ولميسترح، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، وهو القائل صلى الله عليه وسلم: "من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه".
وروى ابن مردويه وأورد ذلك كثير من المفسرين بأسانيدهم أن بلالاً رضي الله عنه مر على رسول الله صلى الله عليه وسلم سحَراً، يؤذنه بصلاة الفجر، فسمعه يقرأ: { إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب * الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى" جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار } [ آل عمران : 190-191 ] ، وبعد أن فرغ من صلاته قال لبلال رضي الله عنه وهو يبكي: "لقد نزل علي الليلة قوله تعالى... ثم تلا الآيات السابقة.. ثم قال صلى الله عليه وسلم: "ويل لمن قرأها ولم يتدبرها".
وهكذا... كان صلى الله عليه وسلم إذا جن عليه الليل في رمضان وغيره قام متبتلاً لله سبحانه وتعالى... وما أعظم قيام الليل، خاصة في رمضان، وما أعظم السجدات، وخصوصاً في رمضان... وما أحسن التبتل والدعاء والبكاء والإنابة إلى الله لا سيما في رمضان:
قلت لليل هل بجوفك سر
عامر بالحديث والأسرار؟
قال لم ألق في حياتي حديثاً
كسجود الأبرار في الأسحار
وقيام الليل، لما تركته الأمة الإسلامية إلا من رحم الله ذبل في صدورها الإيمان وضعف اليقين، وعاش جيل فيه تهاون وكسل وقعود ودعة وحب للدنيا وإخلاد إلى الأرض، إلا من رحمه الله، { وقليل من عبادي الشكور } [ سبأ : 13 ] .
والذي ينبغي للمسلم الذي يريد أن يصلح نفسه أن يكثر من تلاوة القرآن وصلاة الليل، فإن هذا الشهر شهر تجديد للروح، وتزكية للنفس، وزيادة للإيمان، وفرصة ثمينة لا تتعوض أبد الدهر، وشهر توبة وعتق من النار.
عدد ركعات قيامه صلى الله عليه وسلم: أما عن عدد ركعات قيامه صلى الله عليه وسلم فقد كان لا يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة، كما روت عائشة رضي الله عنها: "كان صلى الله عليه وسلم لا يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة... يصلي أربعاً فلا تسأل عن طولهن وحسنهن...."الحديث.
كان يصلي إحدى عشرة ركعة، ولكن الركعة الواحدة تعدل، بل ربما تزيد على آلاف الركعات من ركعات كثير من الناس اليوم، يقف في الركعة الواحدة أمداً طويلاً يناجي ربه، ويتدبر كلامه، ويحيي روحه ويتدبر القرآن، يبكي ويناجي، ويسأل ويسجد طويلاً ويركع طويلاً، فتصبح الركعة حسنة جداً متقنة، ما أحسن منها، والله يقول: { ليبلوكم أيكم أحسن عملا } [ الملك ] ، ولم يقل: أكثر عملاً.
التجويد أفضل من التكثير: وعلى هذا فالعمل في صلاة القيام، أو في الإسلام على وجه العموم، يعتبر بكيفه لا بكمه، والتجويد أفضل من التكثير بلا جودة، حتى في التلاوة، فلا يُهذرم القرآن أي يقرؤه بسرعة بغير تدبر فيضيع معانيه وحروفه على حساب الختم، إذ المقصود التدبر والمعايشة للمعاني، ورب آية واحدة سمعها مسلم بتدبر وإعمال فكر أفضل من سماعه عشرات بل مئات الآيات وقلبه غافل وفكره شارد.
وإن من الناس من يختم القرآن في رمضان مرة، ولكن يا لها من ختمة، ما أحسنها وما أجودها، يعالج فيها نفسه بكلام الله، ويداوي جراحات قلبه بكلام مولاه، فيكون للقرآن أثر في قلبه وسلوكه.
وأناس آخرون يقرؤون فيختمون كثيراً لكن مق صلى الله عليه وسلم ودهم الأجر، فهم مأجورون، إن شاء الله، لكن غذاء الروح ومدد اليقين وماء الإيمان، لا يحصل إلا بالتدبر ومعايشة القرآن.