الصيام والتكافل الاجتماعي
للصيام في الإسلام منزلة عظيمة فهو عبادة اشتملت على خصائص جليلة، اقتبس منها الموجّهون والمصلحون أسرارًا عظيمة وفائدة جسيمة من تربية صحية وسلوكية واجتماعية وإحساس بعوز الآخر …إلى غير ذلك مما هو متداول ومعروف، ونحن في هذه العجالة نقتطف من ثماره اليانعة جملاً قليلة، وإشارات لطيفة حول الأثر الإيجابي للصيام على المجتمعات.
قال الله تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون) (البقرة: الآية 183) فهو وسيلة عظمى لإشاعة التقوى والإحساس بآلام الآخرين بين الأفراد والجماعات؛ إذ يسمو بالإنسان عن الشهوات وينقله إلى مرتبة عليا تزكو فيها النفس وتذوق فيها طعم الإيمان.
وللصوم أفضال كثيرة ومحاسن بديعة وآثار إيجابية متعددة تشمل الفرد والمجتمع، وهذا يشمل الصوم المفروض كصوم رمضان وصوم الكفارات، والصوم المندوب والمسنون: كصوم عاشوراء، وثلاثة أيام من كل شهر، ويومي الخميس والإثنين من كل أسبوع.
فهو مدخل واسع إلى تحقيق معنى التكافل الاجتماعي، فعندما يشعر الصائم بألم الجوع والعطش، فإنه يستشعر حالة المحرومين والبائسين من الفقراء والمساكين الذين لا يجدون ما يدفعون به عنهم مرارة الجوع والظمأ، وفي هذا الصدد يقول ابن القيم: "لمّا كان المقصود من الصيام حبس النفس عن الشهوات ونطاقها من المألوفات وتعديل قوتها الشهوانية؛ لتستعد لطلب ما فيه غاية سعادتها ونعيمها وتبدل ما تزكو به مما فيه حياتها الأبدية.
فالثري الصائم يجب أن يوطد صلته بمجتمعه وأن يعيش معه بقلبه وروحه ووجدانه، فيشاركه أفراحه وأحزانه ويعطف على فقرائه ويقوي شوكة ضعفائه؛ فلا يقسو على الفقراء ولا ينسى حقهم في أمواله؛ لأنه يجوع بالصوم كما يجوعون بالفقر والحرمان، ويتألم من مشقة الصوم كما يتألمون من الفاقة والعوز؛ وحينئذ يشعر بحاجتهم وبؤسهم فيعطف عليهم ويحنو على ضعفهم ويشاركهم في طعامه وشرابه، وبذلك يحقق الصيام أسمى غاياته ويحقق المجتمع أعلى درجات المشاركة الوجدانية والفعلية بين أبنائه.
والشريعة الغراء كما حثت على التعارف في مجالات البر والتراحم والتكافل الاجتماعي بصفة عامة، فإنها حثت عليه في رمضان بصفة خاصة، يقول الرسول -صلى الله علية وسلم- عن هذا الشهر: "إنه شهر المواساة وشهر يزداد فيه رزق المؤمن، من فطّر فيه مؤمناً كان مغفرة لذنوبه، وعتقًا لرقبته من النار". ويقول -صلى الله عليه وسلم: "ومن سقى صائماً سقاه الله من حوضي شربة لا يظمأ حتى يدخل الجنة" رواه ابن خزيمة في صحيحه.
وقال صلى الله عليه وسلم: (من فطّر صائماً كان له مثل أجره غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيئًا) رواه الترمذي.
هذه الأدبيات النبوية وغيرها الكثير، تؤكد أن شهر رمضان مدرسة للمسلمين تنمي الإيمان في النفوس وتعمق التقوى والورع في القلوب وتوثق الصلات بين أبناء المجتمع، لكن هذه المعاني هل تتحقق في واقعنا؟ إن الإحساس بآلام الآخرين شعور موجود لدى البعض من الخيرين وأهل البر والإحسان، لكن السواد الأعظم من أثرياء المسلمين لا يأبه بأمر إخوانهم والتسلط على شعوبهم فيستبدون بأمور معيشتهم، وبدلاً من أن يرفعوها إلى مستو لائق من الحياة يهبطون بها إلى مستنقع الحاجة وسوق الفقر؛ فيصبح الناس عندهم فقراء، لكن من نكث عن عهد الله وباع ضميره للشيطان فاستعبد شعبه وأذل أمته ودفع بهم إلى حلبة الصراع مع الجهل والفقر والعوز؛ فإن الله لهؤلاء بالمرصاد.
وعن أم عمارة الأنصارية –رضي الله عنها- أن النبي –صلى الله عليه وسلم- دخل عليها فقدمت إليه طعاماً فقال: "كلي" فقالت: إني صائمة ، فقال رسول الله –صلى الله عليه وسلم: "إن الصائم تصلي عليه الملائكة إذا أكل عنده حتى يفرغوا وربما قال: حتى يشبعوا" رواه الترمذي وحسّنه ابن ماجه.
ليكن هذا الشهر العظيم تجارة رابحة مع الله يشعر فيه أغنياء المسلمين بإخوانهم الفقراء، وما أكثر فقراء شعوبنا الإسلامية وما أشد حاجة أبناء الأمة من الشعوب المنكوبة في فلسطين وكشمير هنا وهناك؛ إذ كان معلم البشرية وقائد الأمة أجود ما يكون في رمضان ويكثر فيه الصدقة والإحسان وتلاوة القرآن والصلاة والذكر والاعتكاف.